مفاعيل الزيارة البابوية: نتائج سياسية وكنسية لن تتأخّر؟
جوزف القصيفي نقيب محرري الصحافة
Monday, 08-Dec-2025 06:59

لا تزال زيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان موضع تقويم في الصالونات السياسية الضيّقة، وهي بعيداً من التفسيرات الجانبية لبعض المظاهر البروتوكولية والتنظيمية التي واكبتها، كانت ناجحة بكل المعايير.

هي زيارة دولة يقوم بها البابا إلى شعب ودولة، اكتسبت طابعاً استثنائياً من حيث ترتيبات الحماية والتنظيم الدقيق الذي لم تشبه شائبة، بل كان مدعاة ثناء تحدثت عنه وسائل الإعلام العالمية على اختلافها، خصوصاً انّها من المرّات النادرة التي تحظى فيها زيارة بابوية بمثل هذه التغطية التي فاقت المتوقع، إذ لم يعد في قدرة المنظّمين استيعاب المئات من الإعلاميين الذين كانوا يرغبون في تغطية هذا الحدث التاريخي. أما من حيث المضمون، فإنّ هذه الزيارة وفّرت مظلّة حماية لفلسفة وجود لبنان كوطن، بعد تأكيد البابا لاوون الرابع عشر في كل محطات زيارته، إصرار الفاتيكان على وحدة لبنان واللبنانيين، والحرص على ثقافة العيش معاً كحتمية لا ردّ لقانونها، ليس لأنّ الكرسي الرسولي يعتبر هذا البلد مختبراً لتفاعل الأديان والطوائف وتلاقيها، بل لأنّه يرى في كينونة هذا البلد كيمياء تنبع من خصائص تجعل منه أرض لقاء وتواصل، تتشكّل فيها الحياة المشتركة بين مكوناتها. ومن هنا يمكن فهم قدرة لبنان على النهوض، والتعافي من النوازل التي تحلّ به من خارج وداخل. وكان لافتاً أنّ البابا لاوون الرابع عشر خاطب الناس مباشرة، مفجّراً في داخلهم منابع الرجاء والامل والتراحم، لأنّ في ذلك إسقاطاً للحواجز والسدود التي تباعد بين أبناء الوطن ومناطقه.

كان البابا في القصر الجمهوري، وعنايا، وحريصا، وبكركي، وساحة الشهداء، والواجهة البحرية، يتكلم بلغة واضحة، مؤثرة، بليغة، ومباشرة، وإن بصياغات مختلفة. وأعار اهتماماً لذوي الاحتياجات الخاصة، ولذوي شهداء تفجير المرفأ وضحاياه الأحياء من جرحى ومعوقين، وجلّ ما كان يريد إيصاله، أنّه بابا المتألمين، المهمشين، المرضى، المنسيين، الذين يحملون في قلوبهم جرحاً لم يندمل جراء ما يحلّ بهم من ظلم وقهر معنوي. إنّ زيارة البابا لاوون تضع الكنيسة في لبنان أمام مسؤولياتها، وأمام أسئلة كبيرة يتعيّن الإجابة عنها، وهي كنيسة مقتدرة وتملك الإمكانات والطاقات البشرية والفكرية والمادية، ولكنها تحتاج إلى رؤية متكاملة لتوظيف كل هذه الإمكانات والطاقات في مشروع واضح يرمي إلى ربط المسيحيين بأرضهم، من خلال توفير منظومة الخدمات الأساسية التي تحدّ من هجرتهم.

لقد كان واضحاً خلال الزيارة أنّ اللبنانيين عموماً والمسيحيين خصوصاً، يشكّلون مجتمعاً يتميز بالدينامية ويفتقر إلى التماسك، وقد لفتت هذه الدينامية اهتمام البابا، وقد عاينها من قرب ميدانياً في محطات الاستقبال التي جرت له. في خمسينات القرن الماضي كتب المفكر والرؤيوي موريس الجميل (النائب والوزير السابق): «إنّ لبنان وطن مسكوني يحتوي على غنى الإنسانية النوعي». وقد تحقّق الحبر الأعظم من صدق هذا القول من المشاهدات، وخطب رجال الدين المسلمين والمسيحيين، في لقاء الحوار المسكوني الذي عُقد الاثنين الفائت في ساحة الشهداء وسط بيروت في حضوره.

لا شك أنّ زيارة البابا إلى لبنان أحبطت دعاة التقسيم والفدرلة، وأيضاً الإلغائيين ذوي الدعوة إلى قيام الدولة الدينية. وهي كانت رسالة واضحة لتحقيق العدالة الاجتماعية، والإصلاح، والتطلع إلى الإنسان و»كل الإنسان»، على ما يقول البابا بولس السادس. لا شك في أنّ زيارة البابا لاوون الرابع عشر فتحت كوة في جدار النار الذي يلف لبنان باللهب والدخان، وهو سيعمد - وفق معلومات العارفين- إلى السعي لدى الإدارة الاميركية، لكي تتدخّل بقوة لحمل إسرائيل على لجم استعدادها لغزو جديد لهذا البلد، ووقف الاعتداء عليه، وعدم العبث في الساحة الداخلية خشية جرها إلى صدام، لن ينجو من تداعياته اللبنانيون جميعاً، والمسيحيون في طليعتهم. وللبابا لاوون في الولايات المتحدة تأثير كبير لدى جمهور الكاثوليك، ويمكن له أن يضطلع بدور فاعل وكبير، على ما فعل الكاردينال جون اوكونور رئيس أساقفة نيويورك في مطالع ثمانينات القرن المنصرم، عندما تدخّل بقوة لحماية لبنان ووحدته.

إنّ الزيارة البابوية للبنان هي علامة مضيئة تُضاف إلى النقاط التي تزيد من رصيد العهد، ومن زخم الحراك الذي يقوده رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون من أجل نقل لبنان إلى حال أفضل من الاستقرار والازدهار، على رغم من كل الصعاب والعِقد التي يرزح لبنان تحت وطأتها. ستكون لزيارة البابا انعكاسات على غير مستوى وصعيد، تبدأ من موضوع وقف الحرب على لبنان وانسحاب إسرائيل من المواقع التي تحتلها، وتعزيز سلطة الدولة على أرضها، فلا يقاسمها أحد من خارج الشرعية مسؤولياتها، وصولاً إلى حركة استنهاض كنسية لن تتأخّر في الانطلاق، من أجل أن يتحقق الأمل والرجاء فعلاً معيوشاً على أرض الواقع.

الأكثر قراءة